«لم آتِ لألقي خطابا».. كتاب جديد لماركيز!

المقاله تحت باب  منتخبات
في 
22/01/2011 06:00 AM
GMT



          وظيفة الكاتب ربما هي الوظيفة الوحيدة التي تبدأ صعوبتها عند ممارستها

أول خطاب ألقاه غابريل غارسيا ماركيز كان عندما كان له من العمر سبعة عشر عاما، أما آخر خطاب فكان قبل فترة قريبة، عندما كان قد أكمل للتو 80 عاما. الخطاب الأول الذي كان موضوعه الصداقة ألقاه عام 1944 في مدرسة ثانوية البنين في مدينة زيباكيرا الكولومبية، حيث الشاب ماركيز الذي سيصبح في المستقبل كاتبا مشهورا أنهى للتو دارسة البكالوريا، أما الخطاب الأخير الذي ألقاه ماركيز في الحفل الخاص في قصر المؤتمرات في قرطاجة الهنديات في كولومبيا وفي إطار المؤتمر الرابع للغة القشتالتية (الكاستيانية)، فكان مناسبة أيضا لإطلاق طبعة خاصة من رواية ماركيز «مائة عام من العزلة» بمليون نسخة. في الخطاب الأول كان حاضرا نفر من زملائه الطلاب الذين سيصبح بعضهم بعدها مشهورا (وإن ليس بشهرة ماركيز)، أما في الثاني فقد كان حاضرا 1500 مدعو من الشخصيات المهمة في العالم، حرسهم في خارج القاعة 2300 شرطي، ومن بين الحاضرين كان ملك إسبانيا خوان كارلوس وزوجته، وبيل كلينتون، ورئيس كولومبيا السابق ألفرو أوريبه.
«لم آتِ لألقي خطابا»، قال ماركيز لزملائه في مناسبة خطابه الأول في تلك السنة التي أصبحت غابرة الآن، بنبرة ساخرة لم تخلُ من نزق المراهق، وهذه الجملة وليس غيرها هي التي اختارها صاحب النوبل بالذات لكي تكون عنوان كتاب يحوي اثنين وعشرين خطابا ومحاضرات نزلت للأسواق في مدريد قبل أسابيع.
من كلمته المشهورة بمناسبة تسلمه جائزة نوبل عام 1982 في استوكهولم إلى الإشكالية التي دعا فيها إلى تقاعد اللغة القشتالتية في زاكاتيساس في المكسيك عام 1997، يحوي الكتاب مختارات متنوعة لشغف صاحب «الحب في زمن الكوليرا» في مختلف المجالات التي كتب عنها، وهي كثيرة، تبدأ بالسينما وتمر بالسياسة والصداقة، وتنتهي بأميركا اللاتينية وطبعا بالأدب. أغلب مداخلاته الأولى، كما هي الحال في مداخلة له عام 1972 في فنزويلا بمناسبة تسلمه جائزة رومولو غايغوس، تبدأ بالاعتراف بشيء غير قابل للتعويض، وإن ظن البعض العكس، وهو يعني «تسلم جائزة وإلقاء خطاب».
«وظيفة الكاتب ربما هي الوظيفة الوحيدة التي تبدأ صعوبتها عند ممارستها»، هذا ما قاله ماركيز في كاراكاس في عام 1970، عندما كان «سعيدا وغير مشهور»، في مؤتمر تحت عنوان «كيف بدأت بالكتابة؟». في تلك المناسبة تحدث ماركيز عن قصته الأولى، كيف أنه كتبها وكان هدفه أن تكون في النهاية ردا على صحافي كولومبي صرح بأن القصاصين الشباب في كولومبيا ليس عندهم ما يقولونه. الكلمة تلك، كما صرح للصحافيين يوري كريستوف بيرا، المسؤول عن تحرير كتاب ماركيز الجديد، أنقذتها مارغريتا ماركيز ابنة عم الكاتب من النسيان، من «أرشيف» العائلة: «عندما قرأ غابو النص، قال هذا ما كتبته أنا بالضبط، أنا متأكد».
بعد أربعين عاما من ذلك التاريخ تقريبا، وأمام جمع غفير من الشخصيات المهمة تلك في مدينة قرطاجة الهنديات، ألقى غارسيا ماركيز أمام الحضور بتلك الفرضية التي لا تخلو من الطرافة والتي تقول إنه «إذا عاش 50 مليونا من قراء (مائة عام من العزلة) إلى ذلك الحين في عام 2007، إذا عاشوا معا، فإنهم سيشكلون نفوس أحد بلدان العالم الكثيفة السكان»، وإن ما يقوله «ليس له علاقة بالتفاخر» بقدر ما له علاقة بالإحصائيات.
في خطابه بمناسبة تسلمه لنوبل لم ينسَ غارسيا ماركيز التذكير بأستاذه الذي تعلم الكتابة منه، الأميركي وليم فوكنر، وببابلو نيرودا، وتوماس مان، ثلاثتهم حصلوا على نوبل مثله، لكن كلماتهم كانت سياسية بالقدر نفسه الذي كانت فيه أدبية، «لأن الأصالة التي تستسلم لنا في الأدب ودون تحفظ تمتنع عنا وبكل أنواع سوء الظن في كل محاولتنا الصعبة بشكل للتحول الاجتماعي».
أما الجملة التي قرأناها مرة على لسان سيمون بوليفار في رواية ماركيز «الجنرال في متاهته»، والتي تقول: «نحن جنس بشري صغير»، فنعثر عليها هذه المرة في جميع خطابات ومداخلات غارسيا ماركيز عند الحديث عن أميركا اللاتينية، رغم أنه غالبا ما يلحق به جملة أخرى تقول بأن الجنس البشري الصغير هذا هو «أول إنتاج عالمي للمخيلة الإنسانية المبدعة»، و«لاندماج السينما والأدب» أيضا. قلقه المتعلق بقارته مبثوث في كل سطر من مداخلاته تلك سواء في حديثه عن الديكتاتوريات أو عن تجارة المخدرات، بل نعثر عليه حتى في حديثه عن البيئة. أما التربية العامة فهي بالنسبة له سلاح فعال ضد التهميش الاجتماعي: «الفقر والظلم لم يتركا لنا وقتا طويلا لنتعلم دروس الماضي ولا التفكير بالمستقبل».
في جواب قديم للصحافة على سؤال «لماذا تكتب؟»، قال ماركيز إنه يكتب «لكي يفرح الأصدقاء»، أحد هؤلاء الأصدقاء الحميمين لماركيز هو الكاتب الكولمومبي المشهور (وإن ليس بشهرة ماركيز) ألفارو ماتيس، الذي يكتب عنه ماركيز في الكتاب أيضا. «ألفارو ماتيس وأنا عقدنا معاهدة أن لا يتحدث أحدنا عن الآخر للرأي العام، لا بالمديح ولا بالذم، كان ذلك القرار مثل تطعيم طبي ضد المديح المبالغ به عندنا نحن الاثنين إزاء بعض»، في عام 1993 وفي عيد ميلاده السبعين كسر ألفارو ماتيس وصديقه المعاهدة تلك. حسب ماركيز كسر صاحب «ماركول» المعاهدة قبله، لماذا؟ الجواب لا يخلو من طرافة، لأنه «لم يعجبه الحلاق الذي اقترحت عليه الذهاب إليه». ثم يروي ماركيز رحلة ماتيس معه للسويد وحضوره حفل تسلمه الجائزة، وبنفس الروح الساخرة التي دمغت ماركيز علاقاته مع الأصدقاء، يكتب عن ألفارو موتيس الذي صحيح أنه «لم يُجِد رقصة البوليرو» في ليلة حفل نوبل في استوكهولم، إلا أن ماركيز مدين له لأنه أعاره كتاب «بيدرو بارامو» الذي علمه الكتابة عن عالم مختلف.
في رثاء لاحق للكاتب الأرجنتيني خوليو كورتازار تحدث صاحب «العيش من أجل الروي»، كيف أن «الإنسان الأكثر إثارة للانطباع» الذي تعرف عليه في حياته هو خوليو كورتازار، وحسب ما قال كريستوبيل بيرا، فإن هذا النص هو أحد النصوص المفضلة عند ماركيز، «كل مرة عندما يقرؤه من جديد تنتابه مشاعر جياشة».
خطاب آخر مفضل عند الكاتب هو «من أجل ما يلزم أن يكون عابرا»، خطاب في الحقيقة لم يخلُ من الاستفزاز ألقاه ماركيز في زاكاتيكاس أمام حشد كبير من الأكاديميين المختصين باللغة القتشالتية: «لنُحِل الأبجدية اللغوية للتقاعد، رعب الجنس البشري منذ المهد...». خوزيه أنتونيو باسكوال نائب مدير الأكاديمية الملكية الإسبانية لا يزال يضحك كلما تذكر الكلمة الاستفزازية تلك التي هدر بها صوت ماركيز وهو يشنع بالنحو والقواعد. بالنسبة له الموضوع يدخل في باب الطرافة أكثر من النظر إليه بصفته خطابا مضادا لكل ما هو أكاديمي، «في الحقيقة كان ذلك بيانا أكاديميا للدفاع»، كما يقول باسكوال، «لم يُثِر عندي الفضيحة». بالنسبة له لقد حصل ذلك في تاريخ اللغة القشتالتية أكثر من مرة، «منذ روبين داريو على الأقل. إنه تقليد قديم. إذن لا تستفز، الخطاب يظل هشا، ولن تفهم». باسكوال، الذي عمل أيضا على تنقيح وتصحيح النسخة الجديدة من «مائة عام من العزلة»، يؤكد كيف أن غارسيا ماركيز مر على بروفات الرواية وعلى عكس ما ادعاه في خطابه، «كان حريصا على خلوها من الأخطاء كما هي القواعد».
المهم أن المسؤول عن كتابه الجديد، «لم آتِ لألقي خطابا» الإسباني كريستوبيل بيسكوا يؤكد بأن ماركيز ترك خطاباته ومحاضراته كما هي، كما كانت عليه في وقت كتابتها، حتى كلمته التي كتبها وعمره 17 عاما لم يغيرها، بل حتى الفواصل والنقاط بقيت على حالها.
والآن ماذا بعد؟ ماذا يعمل الكاتب؟ يقال إن الكاتب يعمل على رواية اسمها «سنرى بعضنا في شهر آب»، التي لا يُعرف موعد صدورها، وحسب ما قاله ماركيز نفسه للأصدقاء بأن هناك شخصية في الرواية لا تزال غير مقنعة بالنسبة له، وهذا ما يجعله يتردد في نشر الرواية. لا نعرف إذا كانت تلك هي طرفة أخرى لماركيز!